كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم، في غير صلة بالله، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه.. ما كان لهم قطعًا وليس من شأنهم أصلًا.. أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر. ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض.. إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها. أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان.
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}.
فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه. فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه، ذلك إذ قال له: {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيًا} فلما أن مات أبوه على الشرك، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه، {تبرأ منه} وقطع صلته به.
{إن إبراهيم لأواه حليم}.
كثير التضرع لله، حليم على من آذاه. ولقد آذاه أبوه فكان حليمًا؛ وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعًا.
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية أنه لا عقوبة بغير نص؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل: {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم}.
إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه. وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلًا.. ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء. ومنه البيان والتعليم.
ولقد جعل الله هذا الدين يسرًا لا عسرًا، فبين ما نهى عنه بيانًا واضحًا، كما بين ما أمر به بيانًا واضحًا. وسكت عن أشياء لم يبين فيها بيانًا- لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير- ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد. ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئًا من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه الله. تحقيقًا لرحمة الله بالعباد..
وفي نهاية هذه الآيات، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده. وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة.
{إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة.. كلها بيد الله دون سواه. وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء.
وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله.. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه.. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور: كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق.. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضًا..
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين- أيًا كانت الأسباب- أمرًا مستنكرًا عظيمًا؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لابد من تتبعها والتركيز عليها.. وفي الآيات التالية يبين مدى فضل الله ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من أخطاء صغرت أم كبرت.. كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم- وهم المرجون لأمر الله الذين سبق ذكرهم حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان:
{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}.
وتوبة الله على النبي صلى الله عليه وسلم تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال الله عنه لنبيه: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم. وقد عفا الله عنه في اجتهاده صلى الله عليه وسلم مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين!
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى: {الذين ابتعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}. وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل- وهم من خلص المؤمنين- وبعضهم ما استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم! ثم ثبت الله قلبه ومضى بعد تردد.
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر الله سبحانه أنه كان {ساعة العسرة}. ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها (ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي، ومن البداية والنهاية لابن كثير، ومن تفسير ابن كثير):
لما نزل قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون...} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم (ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريرًا للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن) وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاء، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، واخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له (أي يقصد إليه) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
واستأذن بعض المنافقين رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم! فأذن! وفي هذا نزل عتاب الله لنبيه في الإذن مصدرا بالعفو عنه في اجتهاده: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر- زهادة في الجهاد، وشكًا في الحق، وإرجافًا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا. ثم تاب الضحاك.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع. وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند الله. وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين، عثمان بن عفان رضي الله عنه فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها..
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض» وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه- بإسناده- عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها.
قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها (وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب): «ما على عثمان ما عمل بعد هذا».. (وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به. وقال: غريب من هذا الوجه). ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به، وقال: ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة- بألفاظ مختلفة- قال: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف (أي درهم)، فقال يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها.
فقال: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي.
قال: فلمزة المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟!
في روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل (وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم) إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه!
ثم إن رجالًا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون. وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة، وكانوا أهل حاجة. فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل (من السبعة البكائين) وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قال: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه. فأعطاهما ناضحًا له (أي جملًا يستقي عليه الماء) فارتحلاه. وزودهما شيئًا من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد (أحد البكائين) فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.. ثم أصبح مع الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدق هذه الليلة؟» فلم يقم أحد! ثم قال: «أين المتصدق؟ فليقم» فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر، فوالذي نفسي بيده، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة».
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفًا من أهل المدينة ومن قبائل الأعراب من حولها. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب ابن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية (وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم) وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي.